
إلى أي مدى يمكن أن تصل الحرب التجارية التي أججها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال رفع التعرفات الجمركية، والتي تستهدف الصين بالدرجة الأولى، وإن كانت تقدّم قسمة «أمريكا في مقابل بقية العالم» على القسمات المتداولة سابقاً، كمثل الثنائية بين «الغرب» في مقابل بقية البلدان، أو القسمة بين بلدان «حلف شمالي الأطلسي» وبين من هم خارجه، أو ثنائية «الشمال» العالمي في مقابل الجنوب؟
يأتي السؤال حول مآل الحرب التجارية الحالية ليضاف على الورشتين الأخريين التي تعنيان الإدارة الأمريكية الحالية: فإلى أين يمكن أن تصل مساعي دونالد ترامب بخصوص وقف الحرب الروسية الأوكرانية؟ وإلى أين يمكن أن تفضي سياساته في الشرق الأوسط، ما بين إعادة تثبيته لتصوره الاقتلاعي لمن ينجو من حرب الإبادة من بين سكان قطاع غزة وما بين التفاوض تحت التهديد والوعيد، ومن بعد نزع المخالب والزعانف، مع إيران؟
أظهرت الأشهر الأولى من ولاية ترامب الجديدة هذه عن تصميم على الخوض في هذه «الورش الثلاث» في وقت واحد، دون أن يكون بالمتسع تقديم واحدة على الأخرى على طول الخط.
يتشهى ترامب حديث «الصفقة». تثير الكلمة لعابه. يحب تقديم نفسه على أنه محترف إنجاز الصفقات. ويمني النفس بواحدة مع روسيا، وأخرى مع إيران، وثالثة مع الصين.
وإن كان يضع إطارا مختلفا حكماً حيال كل بلد من هذا الثلاثي. فالهدف مع روسيا، إخراجها من ورطتها في مقابل إخراج الغرب من ورطة الحرب التي لا تنتهي إلى جانب أوكرانيا.
ووراء ذلك يأتي الاقتناع «الترامبي» من أن روسيا بعد سنوات من الاستنزاف الحربي ومن الحجر الاقتصادي عليها يمكن مع ذلك بأن تكون مفيدة، ومتعاونة مع الولايات المتحدة، ولا مصلحة لأمريكا أساساً بأن تظهر في موقع الانحياز لأوروبا الغربية طوال الوقت تجاه روسيا، بل ربما الأفضل «رعاية» وضبط التوتر بين الروس وبين الأوروبيين، بما فيه تأبيد حاجة كل من موسكو وسائر العواصم الأوروبية لأمريكا، من دون أن يتسبب ذلك بإرهاق الولايات المتحدة نفسها. فما الفائدة من توسيع حلف شمالي الأطلسي إلى أوكرانيا، إن كانت ستصبح روسيا عين أمريكا على أوروبا من جهة الشرق، في مقابل إبقاء الضغط الأوروبي على روسيا، من جهة الغرب؟ يبقى أن كل هذا التفكير في كفة، والتمكن بالفعل من وضع تصور عملاني على أساسه تنتهي الحرب في الدونباس في كفة ثانية؟ سهل طي صفحة ضم أوكرانيا لحلف شمالي الأطلسي، لكن ماذا عن الأراضي التي أعلنت موسكو ضمها من أوكرانيا؟ هل يمكن أن تتقبل كييف الأمر؟ ماذا عن شبه جزيرة القرم التي أعلنت انضمامها إلى روسيا عام 2014؟ لا الروس قادرون بسهولة على الانسحاب من أي قطعة أرض أوكرانية يحتلونها، ولا الأوكران قادرون بسهولة بعد كل هذه السنوات على الإقرار لروسيا بالسيادة على أراض هي جزء من بلدهم. مبدأ عدم القابلية للمساس بالحدود الترابية للبلدان ليس من السهل رميه جانباً بالنسبة لأكبر بلد من حيث المساحة موجود كله ضمن الخارطة الأوروبية: أوكرانيا.
ترامب لا يبدو متحمساً لتغيير الأنظمة. وهو لا يعير بالاً لنشر الديمقراطية في العالم الثالث. يفضل التعامل مع ما يصنفه ديكتاتوريات ذكية. يقسم العالم الثالث، بل العالم كله، بين ديكتاتوريات ذكية وأخرى غبية
أما في الشرق الأوسط، فترامب يخير إيران بين التخلي عن إمكانية تطويرها السلاح النووي من جهة، وعن إمبراطورية الميليشيات التي ترعاها في المنطقة، وبين شن الهجمات عليها. الافتراض هنا أن النظام الإيراني سيفضل بطبيعة الحال التفاوض. والأولوية عنده اجتناب ضربة مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية. لكن النظام الإيراني غير راغب في الوقت نفسه في تغيير سمته الأيديولوجية. وترامب هو الآخر لا يبدو متحمساً لتغيير الأنظمة. وهو لا يعير بالاً لنشر الديمقراطية في العالم الثالث. يفضل التعامل مع ما يصنفه ديكتاتوريات ذكية. يقسم العالم الثالث، بل العالم كله، بين ديكتاتوريات ذكية وأخرى غبية. والذكي عنده هو من يفهم أمرين: أن قوة أمريكا لا تقارع، وأن أمريكا الحالية في الوقت نفسه غير مهتمة بطبيعة النظام السياسي لكل بلد، طالما هو لا يتعرض لمصالحها، ويقبل بـ«قسمته» في تراتبية الأمم.
أما الهدف مع الصين فإرجاعها إلى بيت الطاعة: تأمين يد عاملة رخيصة للاستثمارات الأمريكية فيها، شرط عدم تعكير الأمان الاستثماري في السوق الأمريكية الداخلية، سواء من خلال «التجسس الصناعي» أو الإغراق التجاري، أو الإضرار بأرباح الشركات والصناعات الأمريكية. يريد ترامب من الصين شيئين في وقت واحد. يريد من وراء هذه الحرب التجارة توحيد جبهة رأس المال الأمريكية بين حاجتها إلى اليد العاملة الصينية وبين حاجتها إلى درء الصين عن الداخل الأمريكي. لكنه، في لحظة الرفع المتمادي للتعرفات الجمركية يظهر كما لو أنه يعطي الأولوية لحماية السوق الداخلية الأمريكية، على حساب الاستثمارات الأمريكية في الصين نفسها. فالأولوية عنده وضع حد للعجز في الميزان التجاري مع الصين. لكن شركات أمريكية أساسية تستفيد من انخفاض تكاليف الإنتاج في الصين لتصنيع منتجاتها. فقد بات إيلون ماسك نفسه، ومنذ ست سنوات من أبرز المستثمرين في الصين، بعد افتتاحه مصنع تسلا بشنغهاي، الذي يؤمن نصف إنتاج الشركة من السيارات، وهو أول مصنع مملوك بالكامل لشركة أجنبية في الصين دون أي شريك محلي، وهذا لا يلغي التداخل الاستثماري مع أثرياء صينيين في شركات ماسك الأخرى مثل «سبيس إكس» و«نيورالينك»، ما يوصف عادة بأنه يتم من خلال هياكل مالية غامضة لتجنب التدقيق.
أما شركة آبل فتصنع معظم انتاجها من الأجهزة الإلكترونية في الصين، ولو أنها أخذت تنقل في السنوات الأخيرة جزءا من شبكة تصنيعها إلى الهند، مثلما أن التوسع في السوق الهندي يساهم في تصريف جزء كبير من بضاعتها.
عموما، هناك حركة إعادة انتشار للاستثمارات الأمريكية والغربية من الصين في اتجاه الهند وماليزيا وفيتنام وإندونيسيا. يبقى أن البنية التحتية الأشد تحديثاً، وسلاسل التوريد الأكثر تكاملاً، والسوق الاستهلاكية الأكثر ضخامة، وتجربة مناطق التجارة الحرة العديدة، تعطي للصين جاذبية استثمارية لا يمكن أن تقارعها الهند التي لا تقارن سكك حديدها المتقادمة وشبكة طرقاتها المتعرجة بما استطاعت الصين إنجازه منذ الثمانينيات على هذا الصعيد. 35 ألف كيلومتر من السكك للقطارات السريعة التي يمكن أن تصل إلى سرعة 350 كيلومترا في الساعة في الصين، في مقابل خط واحد للقطار السريع من هذا الصنف، قيد الإنشاء بين مومباي وأحمد آباد. «النزوح الاستثماري» الأمريكي والغربي من الصين في اتجاه الهند لا يزال محدوداً، وإن كانت خطورته في أبعاده المستقبلية، وليس في وضعه الراهن. يضاف إلى ذلك عناصر هشاشة في الاقتصاد الصيني ظهرت في السنوات الأخيرة، لا سيما في أعقاب تجربة «الحجر الصحي الشامل» والقاسي والطويل – وإن كان ينظر لتعميم تجارب الحجر في أعقاب تفشي فيروس كوفيد 19 على أنه جرّ لبقية العالم لمحاكاة خطط التدبر على الطريقة الصينية. لئن كانت قوة الصين الاقتصادية الأساسية الآن تتقوم في المزاوجة بين وفرة القوى العاملة وانخفاض كلفتها، وبين البنية التحتية المتطورة، التي تساهم أيضا في تخفيض كلفة الإنتاج والنقل، وبين ازدواجية تسخير الحزب الشيوعي الصيني الذي هو في الوقت نفسه أكبر شركة استثمارية تجارية في العالم، لمفاتيح التحكم الحكومي بالسوق، من جهة، ولإنشاء جزر استثمارية حرة من جهة أخرى، فإن الصين تعتمد في المقابل وبشكل كبير على استيراد النحاس، والفحم، والنفط. هي أكبر مستورد للنفط في العالم. لقد دخلت الصين في السنوات الأخيرة في مرحلة من تباطؤ النمو، لأنه بكل بساطة ليس هناك نمو يتواصل بالمعدل نفسه لفترة لا محدودة، وبات عدد من الشركات الصينية يعاني من مشكلة تراكم ديون جدية، لأنها اقترضت أكثر لتمويل توسعاتها. لأجل ذلك، السمة «البهلوانية» لأداء ترامب في الأزمة التجارية الحالية مع الصين لا تلغي إمكانية أن تتسبب هذه الأزمة بتعميق عناصر الهشاشة الموجودة بالفعل في الاقتصاد الصيني. ففي النهاية، يمكن اختصار المسائل هنا بمعادلة: أمريكا تحاول حل تناقضات اقتصادها على حساب الصين والعالم، لكن أين يمكن للصين حل تناقضاتها؟
كاتب من لبنان